Algeria
This article was added by the user . TheWorldNews is not responsible for the content of the platform.

آخر السياسيين المحترمين في فرنسا

خسرت باريس باعتراف مختصين فرنسيين أنفسهم، ليس تأثيرها في منطقة الشرق الأوسط فحسب، وهي التي كانت تملك قنوات اتصال عديدة، بل مصداقيتها أيضا لدى شعوب المنطقة، بعدما فقدت سياستها الخارجية "توازن مواقفها" الذي شكّل عقيدة تعامل كل رؤسائها السابقين مع أزمات الصراع العربي الإسرائيلي.

يلخّص موقف زعيم حزب "فرنسا الأبية" ميلونشون ووزير الخارجية الفرنسي الأسبق، دومنيك دوفيلبان، مما يجري في فلسطين، حالة "الإنحراف" في الموقف الرسمي الفرنسي وابتعاده عن تقاليد السياسة الخارجية الفرنسية التي ظلت تلتزم "الحياد الإيجابي" في الصراع العربي الإسرائيلي. ولم يسبق أن تخندقت فرنسا بهذا الشكل في دعم حكومة نتانياهو "اللامشروط" وتشجيعه على تنفيذ حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني، وهي التي تتخذ من حقوق الإنسان إحدى ركائز دبلوماسيتها الخارجية.

وعندما يلتقي ميلونشون، وهو وزير سابق للتكوين المهني في عهد الإشتراكي فرانسوا ميتران، مع دو فيلبان، وهو وزير خارجية سابق في حكومة الرئيس اليميني جاك شيراك، بخصوص الموقف من الحرب في غزة، فهو ليس بالأمر الغريب ولا المفاجئ ولا يستعصي على الفهم، بل هو دليل على أن بين اليسار واليمين في السياسة الخارجية، يجمعهما ما يسمى "الموقف المتوازن" الذي ميّز فرنسا على مرّ السنين، لكنه تم التخلي عنه بالارتماء الأعمى في حضن إسرائيل بشكل غير مسبوق.

إن لم يكن مفاجئا لأحد قرار واشنطن منحها "دعما غير مشروط" لإسرائيل فيما تسميه "حق الدفاع عن نفسها"، فهي التي استعملت مئات المرات حق "الفيتو" في مجلس الأمن حتى تجعلها تفلت من الحساب والعقاب في دوسها على الشرعية الدولية، لكن فرنسا لم يكن منتظرا منها منح "دعم غير مشروط" لحكومة نتانياهو اليمينية المتطرفة لتنفيذ مجازر حرب وإبادة جماعية ضد الفلسطينيين، وهي التي (أي فرنسا)، لم تتأخر لحظة في إشهار "الفيتو" ضد أمريكا في حرب العراق، وهو موقف يحسب للرئيس الراحل جاك شيراك وكان له صدى لدى شعوب الشرق الأوسط، على غرار موقفه خلال زيارته لكنيسة القدّيسة آن عام 1996 عندما ثار ضد أفراد من الأمن الإسرائيلي الذين قاموا بدفع فلسطينيين وصحفيين ومساعدين معه، ويومها سألهم (حكومة نتانياهو): "ماذا تريدون؟ أن أعود إلى طائرتي وأعود إلى فرنسا؟ هل هذا ما تريدونه؟ دعوهم يذهبون، دعوهم يذهبون"، في رسالة على عدم الخضوع والخنوع لأطماع وجنون نتانياهو.

لقد وقفت رئيسة البرلمان الفرنسي في مطار تل أبيب، وهي تردّد دعم بلادها اللامشروط لإسرائيل، وهي تشاهد إبادة الشعب الفلسطيني بالصورة والصوت دون أن تتفوّه بكلمة عن فك الحصار والحق في المساعدات الإنسانية لغزة، وكانت نفس رئيسة البرلمان تردّد قبل أشهر قليلة بأن شن روسيا الحرب على أوكرانيا وقطع الكهرباء ومنع إيصال المساعدات الإنسانية للشعب الأوكراني، يعتبر جريمة حرب. فهل بهذا الإنحياز المفضوح للكيان المحتل الذي تمارسه باريس وتصويتها الرافض لوقف إطلاق النار إنسانيا في غزة في مجلس الأمن، وهي التي تملك حق الفيتو، تساهم في ترقية السلم والأمن العالميين؟ وهل بمثل هكذا الموقف يتم احترام القانون الدولي وإنقاذ حياة المدنيين الفلسطينيين من الإبادة والتهجير، وهم الذين كانوا حسب دومنيك دوفلبان "يعيشون في أكبر سجن جراء الحصار" الإسرائيلي الممتد لسنوات والمخالف للقوانين الدولية؟ أليس من العار أن تدعم باريس حكومة نتانياهو التي يعتبر وزير الدفاع فيها، أن الفلسطينيين "حيوانات" ويجب التعامل معهم على هذا الأساس، فهل هذا جزء من الدعم الفرنسي اللامشروط؟

كان منظر الرئيس ماكرون بمعية كاترين كولونا، وزيرة الخارجية ورئيسة البرلمان يائيل برون بيفيه، مخجل حتى للفرنسيين، ليس لإعلانهما "الدعم اللامشروط" لإسرائيل في الدفاع عن النفس، وإنما لعدم التفوّه ولو بكلمة حول ضرورة الإلتزام بالشرعية الدولية والحق القانوني الإنساني التي وقّعت عليه فرنسا حتى لا أقول مبادئ حقوق الإنسان التي تدّعي الدفاع عنه. لقد سقطت باريس سقوطا حرا في هذه الحرب الإسرائيلية الجديدة ضد الفلسطينيين، وأضحى صوتها غير مسموع في العالم وليس في الشرق الأوسط فقط، باعتراف خبراء فرنسيين أنفسهم، بدليل فقدها قنوات الاتصال التقليدية التي كانت تمنحها مفاتيح التأثير في لبنان وسوريا واليمن وليبيا والعراق وغيرها، وهي بصدد جر أذيال الخيبة أيضا في القارة الإفريقية، حيث اضمحل تأثيرها حتى في داخل معسكر الفرانكوفونية بعد طردها من مالي، النيجر، بوركينافاسو والقائمة مفتوحة جراء سياسة "فرانس أفريك".

إن تخندق باريس بشكل أعمى خلف الكيان المحتل الذي دعّمته سياسيا وماليا وإعلاميا، ولم تكتفي بذلك، بل قامت في المقابل من خلال تعليمات وزارة الداخلية الفرنسية، بمنع حتى حق التعبير والتظاهر على الفرنسيين الذين يدعمون حق الشعب الفلسطيني وحتى على دعاة السلام الذين ينادون بوقف إطلاق النار، وهو سلوك متطرّف ومنحاز بشكل مفضوح.

لم يحدث في عهد كل رؤساء فرنسا السابقين الذين كانوا حريصين على البقاء على نفس المسافة في الصراع العربي الإسرائيلي، لأسباب متعددة، منها ارتباطها بعلاقات تاريخية مع دول المنطقة وما يترتّب عليها من مصالح مشتركة، وأيضا لتفادي نقل هذا الصراع إلى داخل الأراضي الفرنسية، وهذا يوصف بـ "خطأ " سياسي كبير وقعت فيه. ومردّ ذلك أنها اختارت التكلم بلسان اليمين المتطرف إيريك زمور ومارين لوبان وسيوتي ودرمانان، وتسعى في المقابل، مع سبق الإصرار، إلى تغييب أصوات وازنة لها حنكة سياسية أمثال دوفلبان وميلنشون، وهم آخر السياسيين الذين أنقذوا "شرف" دبلوماسيتها وحافظوا على بقايا توازن المواقف الفرنسية من مختلف الأزمات في العالم، وهو مؤشر على أن بلاد الأنوار بحاجة ماسة إلى أنوار جيّدة تنير طريق سياستها الخارجية والداخلية.