Kuwait
This article was added by the user . TheWorldNews is not responsible for the content of the platform.

د.عبدالحميد البعلي…مرَّ وهذا الأثر

قليل من المعلمين من يخلد في الذاكرة وقليل من هذا القليل الذين يتركون في النفس أثرٌ لا يزول ولا يمحوه تطاول الزمان. رغم مسيرتي الدراسية الطويلة (أنا حالياً أدرس الدكتوراه) لي في حياتي ثلاثة من هؤلاء النادرين، أحدهم المرحوم بإذن الله الدكتور عبدالحميد البعلي. د.عبدالحميد كان يدخل الفصل قبل الطلاب و يجلس على كرسيه ويملأ حضوره قاعة المحاضرات بالهيبة والوقار وكأنه شيخ في زاوية أو قاض على منصة، ولا غرابة فقد شكّلته شخصية القاضي وهي المهنة التي شغلها لسبعة عشر عاماً قبل أن يتفرغ للعلم والتعليم.
درست على يديه أصول الفقه والمدخل للشريعة وقد برع-رحمه الله- في علمي الشريعة والقانون، ولو أردت تلخيص الرسالة التي يبثها لنا في كل درس لقلت هي تذكيرنا بمسؤولية جيلنا بإعادة مكانة الشريعة في جميع المجالات التي ينظمها القانون الوضعي حتى نستبدل ما وفد إلينا من الغرب بقوانين مستوحاة من الفقه. بهذه الرسالة عاش ولأجلها سخّر حياته فقد بذل نحو تقنين الشريعة جهد علمي وعملي. ففي الجانب العلمي ألّف ما يقرب من ٦٠ كتاباً و نشر ما يزيد على ١٧٠ بحثاً وبالجانب العملي قام -رحمه الله- بصياغة تعديلات القانون المدني الكويتي وتحديداً مادته الأولى المعدلة بموجب القانون رقم ١٥ لسنة ١٩٩٦ التي ألزمت القاضي الذي لا يجد نصاً يتناول موضوع النزاع المعروض بأن يحيل إلى “أحكام الفقه الإسلامي الأكثر اتفاقاً مع واقع البلاد و مصالحها”، وفي ميدان المصارف الإسلامية فقد قام بصياغة قانون البنوك الإسلامية الذي صدر تحت رقم ٣٠ لسنة ٢٠٠٣ بإضافة قسم خاص بالبنوك الإسلامية للقانون الصادر عام ١٩٦٨ في شأن النقد وبنك الكويت المركزي وتنظيم المهنة المصرفية.
وأخبرني-ذات يوم- مستاءً أثناء زيارتي له في مكتبه بأنه عمل مع إخوانه في اللجنة الاستشارية العليا للعمل على استكمال تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية بصياغة تعديلات تشريعية تناولت كافة القوانين الكويتية بما يقربها نحو أحكام الشريعة الاسلامية غير أن هذه القوانين ظلت حبيسة الأدراج دون أن تتبناها الحكومة أو البرلمان. كطلبة، كان يكرر علينا -تقريباً- في كل لقاء أن الشريعة الإسلامية مدرسة قانونية مستقلة عن المدارس الأوروبية المعاصرة وإن ذلك تم باعتراف الأوروبيين أنفسهم بمؤتمر لاهاي مطلع ثلاثينيات القرن الماضي. كان يفخر بمساهماته في خدمة الشريعة ويظهر هذه الحقيقة دوماً وكأنه يطرز مظهره الأنيق -الذي عُرف به -بنياشين و أوسمة.
دعاني مرة إلى بيته في الجابرية و أكرمني عظيم الإكرام رغم أني بسن أحفاده وقد أسرني منظر الكتب وهي تملأ حوائط صالة المعيشة و نحن نتحدث عن الموضوع الذي استحوذ على كيانه و ملأ تفكيره أحالني لقراءة كتب الشيخ محمد أبو زهرة الشيخ الأزهري المعروف و لكون د.عبدالحميد البعلي حصل على الدكتوراه من الأزهر فكان يميل فكرياً لمشايخه الأزهريين أمثال الشيخ أبوزهرة، و إذ به ينادي في أهل بيته ليأتوه بكتب الشيخ من غرفة نومه و قد أتوه بها، وأدركت حينها كيف يغوص العلماء في بطون الكتب و عرفت أنني أمام عالم راسخ العلم لا مجرد أستاذ جامعي.
إن العمل على تقنين الفقه الإسلامي معركة بدأت منذ تسلل المدونات الفرنسية عبر جيوش نابليون وكردة فعل بدأ العثمانيون بعهد التنظيمات وعملوا على تدوين الفقه على شكل القالب الفرنسي وذلك بإصدار مجلة الأحكام العدلية التي صيغت بناء على المتفق عليه في المذهب الحنفي والتي بالمناسبة كانت القانون الحاكم في الكويت حتى مطلع الثمانينات. ولما تخلصت مصر من المجلة بضغط من الاستعمار صاغ د.السنهوري بتكليف من الحكومة القانون المدني المصري والذي غدا مصدراً تاريخياً لكل التشريعات العربية تقريباً. من بعد هؤلاء اجتاحت العالم الإسلامي حركة لتقنين الفقه ونشطت-مؤخراً-في المجال المصرفي فامتزج الفقه في القانون في الاقتصاد كما لم يمتزجا من قبل فصارت البنوك-المعاصرة- لا تستغني عن الفقهاء بل لا تستطيع الإقدام على طرح أي خدمة أو أداة إلا بموافقة الرأي الشرعي. وكان للدكتور البعلي إسهامات جمة في هذا الباب فترأس لجاناً شرعية لبنوك عدة وعمل بعضوية بعضها، و كان رائداً في بناء الإطار التشريعي لها كما قدمنا.
وقد أخبرني د.عبدالرحمن الخراز أنه تواصل مع المرحوم الذي كان يشعر بقرب أجله فأوصاه بأن يصلي عليه تلاميذه في الكويت لأنه يعلم يقيناً الأثر العميق الذي تركه في نفوسهم. وأكاد أجزم بأن اسم الدكتور المرحوم سيظل مخلداً في ميدان الشريعة والقانون فلن يستطيع باحث في هذا المجال أن يكتب بحثاً رصيناً أو عملاً تشريعياً متماسكاً دون أن يمر على مؤلفات الدكتور عبدالحميد ومنجزاته في هذا الباب.
إن إنجازات الرجل في ميدان تقنين الشريعة ستغدو مواد خام ثمينة لو نشرت للعامة لذلك أتمنى من الديوان الأميري أو أي جهة آل إليها أرشيف لجنة استكمال الشريعة أن تنشر أعماله وفاءً له، فلعلها ترى النور مستقبلاً.
سأفخر ما حييت أني كنت قريباً من الدكتور عبدالحميد البعلي والذي تعلمت منه الأدب و العلم و سلوك العلماء ذوي الرسالة السامية.
وفيه تحقق قول شوقي:
وكن رجلاً إن أتوا بعده
يقولون مرَّ وهذا الأثر

عمر صلاح العبدالجادر